وهذه المرتبة -مرتبة العلم- لم يجادل ويمار فيها إلا غلاة المعتزلة، فالمسلمون جميعاً بجميع فرقهم وطوائفهم يثبتونها إلا غلاة القدرية، أي: المنكرين للقدر؛ لأن القدرية تطلق على المنكرين للقدر، مع أنه يجوز من حيث العرف أن تطلق القدرية على من يغلون في إثبات القدر لكن هذا من باب إطلاق الشيء على منكره، فهم ينكرون القدر ومع ذلك سُمُوا قدرية ؛ لأنهم اشتهروا بإنكاره، أما الذين يبالغون في إثباته إلى حد أنهم يسلبون حرية الإنسان وإرادته واختياره، فهؤلاء يُسمَّون الجبرية، وقد يطلق عليهم قدرية، فإذا وجدنا كلمة القدرية فإن المقصود بها غالباً هم المعتزلة، كما ذكر الشارح، فإذا قيل: وأنكر غلاة المعتزلة، فالمقصود عموم غلاة القدرية .
ومن المعلوم أن معبداً الجهني لم يكن هو في الأصل معتزلياً، فكيف أصبح القدر منهجاً للمعتزلة ؟
قد سبق أن أوضحنا أنه لما اعتنق أوائل المعتزلة هذا المذهب وهم: واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، -وهما أول من أسس فرقة الاعتزال- أخذوا إنكار القدر عن معبد، وعن أمثاله ممن كانوا قبله، وهم الذين أدركهم صغار الصحابة رضي الله عنهم؛ كـعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.
فغلاة المعتزلة المقصود بهم غلاة القدرية، والقدرية قسمان: الغلاة وغير الغلاة، والفرق بينهما: أن الغلاة وصل بهم إنكار القدر إلى إنكار العلم، أما غير الغلاة فهم الذين أنكروا مرتبة الخلق لأفعال العباد؛ ولهذا سموا مجوس هذه الأمة؛ وذلك لأن المجوس يثبتون للعالم إلهين: إله النور وإله الظلام، فإله النور خلق الخير، وإله الظلام خلق الشر، فجاء هؤلاء فقالوا: إن الأفعال التي يفعلها العباد من خيرٍ وطاعةٍ ننسبها إلى الله، أما المعاصي فإن العبد هو الذي خلقها، وذلك أن أصل النقاش كان في المعاصي وليس في عموم الخلق، فقالوا: إن العبد هو الذي خلق المعاصي وفعلها، دون أن يقدر الله ذلك؛ فلم يعلمه، ولم يكتبه، ولم يرده، ولم يخلقه.